الصفحة الرئيسية » Uncategorized » تلخيص كتاب التفكير العلمي للمؤلف د. فؤاد زكريا

تلخيص كتاب التفكير العلمي للمؤلف د. فؤاد زكريا

عرض: سعيد طه

 

لم يتوقف النشاط العقلي والروحي لدى الإنسان منذ ظهور البشرية، بل إنّ هذا النشاط كان ملازما للإنسان؛ فمنذ أن وطأت قدمه الأرض وهو يعمل على استخدام قواه العقلية. وخلال مراحل مختلفة من تاريخ تطور البشرية ظل عقل وخيال الإنسان يعملان بدون انقطاع، إذ أبدع في الفن والموسيقى والشعر والأدب والفلسفة، وكوّن لنفسه نظما أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية.  وظل الإنسان خلال تاريخه ينتقل من مرحلة لأخرى، إلا أنه منذ اللحظة التي ظهر فيها العلم، انتقل إلى مرحلة جديدة، وتغيرت معالم حياته بشكل كبير بعد الإنتاج الهائل في الاختراعات العلمية المختلفة. سنحاول من خلال هذه المقدمة المقتضبة أن نعرض تلخيصاً لكتاب “التفكير العلمي” الذي صدر عام 1978 ضمن منشورات سلسلة “عالم المعرفة” التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، وهو من تأليف د. فؤاد زكريا، وهو باحث حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة عين شمس. يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، وتطرق الكاتب فيه بشكل أساسي إلى معالجة قضية التفكير العلمي وسماته، والعقبات التي يواجهها، ونقاط التحول الرئيسية في تاريخ العلم، والعلاقة بين العلم والتكنولوجيا. كما استعرض المؤلف وضع العلم في القرن العشرين والتطور الذي حدث للعلم بعد الاندماج النظري والتطبيقي في مجال التكنولوجيا، ومن ثم عرج المؤلف إلى جانب مهم وهو العلاقة بين العلم والمجتمع، والتأثير المتبادل بين العلم والمجتمع الذي يظهر فيه، وهي قضية حساسة تجاه تطور العلم أو تراجعه، وأخيراً تطرق المؤلف إلى قضية مهمة وهي سمات العالِم والعناصر الأخلاقية لشخصية العالِم وثقافته، باعتبارها عامل مهم في التفكير العلمي.

خصائص الفكير العلمي

يشير المؤلف في الفصل الأول من الكتاب إلى أنّ التفكير العلمي مرّ بمراحل طويلة وعقبات كثيرة اكتسب خلالها سماته الخاصة، وبلغ نتائجه النظرية والتطبيقية بعد ان أزاح العقل البشري خلال رحلته الطويلة أساليب التفكير الخاطئة، واستعاض عنها بعناصر تساعد على تمكين الإنسان وزيادة قدرته على فهم نفسه والعالم المحيط به. على أنّ هذه العناصر كما ذكرها المؤلف هي عبارة عن خصائص وسمات تتسم بها المعرفة العلمية باختلاف ميادينها، وتعتبر هذه العناصر مقياس للحكم على نمط التفكير الذي يقوم به الإنسان، ومن هذه العناصر عنصر “التراكمية” التي تجمع بين الطابعين النسبي والمطلق للعلم باعتبار أن العلم حركة مستمرة،  وأن استمرار حيويته يعود إلى الطابع الحيوي للإنسان. أما العنصر الثاني فهو “التنظيم” الذي يقصد به ضبط المعرفة العلمية وترتيبها بطريقة محددة ومنظمة، والقصد من ذلك هو إبعاد المعرفة العلمية عن عنصر التلقائية والعفوية. أما العنصر الثالث فهو “البحث عن الأسباب” الذي يستهدف البحث عن الظواهر وفهمها وتفسيرها، باعتبار ان تفسير الظاهرة هو سبيل إلى فهم أعمق لها ولمعرفة أسبابها. أما العنصر الرابع فيتمثل في “الشمولية واليقين” الذي يقصد به أنّ المعرفة العلمية شاملة وتجري على جميع أجزاء الظاهرة التي يدرسها العلم، وهذا ما يميز التفكير العلمي عن غيره من الأعمال الفنية والشعرية. والعنصر الأخير وهو “الدقة والتجويد” الذي يميز التفكير العلمي بالدقة في معالجته للظواهر وبعده عن الغموض. وإذا أمعنا النظر في الفرق بين هذه العناصر الأربعة لسمات العلم فسنجد أنّ التراكمية تعني أنّ المعرفة العلمية متغيرة باستمرار، ويأخذ تغيّرها شكل التراكم وإضافة الجديد إلى القديم، ويعني ذلك حسب المؤلف أنّ نطاق المعرفة العلمية – سواء كانت في العلوم الطبيعية أو الإنسانية – يتسع باستمرار في اتجاهين، الأول وهو الاتجاه الرأسي الذي يركز على التعمق في بحث الظواهر المدروسة، والثاني وهو الاتجاه الأفقي الذي يركز على التوسع والامتداد للبحث عن ظواهر جديدة. إلا أن ذلك لا يعني أنّ العلم يسير إما في اتجاه أفقي أو رأسي، بل هناك تداخلا بين الاتجاهين، وهو ما حدث من خلال التداخل النظري والتطبيقي بين العلوم المختلفة مثل استخدام علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية للأساليب الرياضية في أبحاثهم. وفي المقابل، فإن التنظيم في العلم يهدف إلى تنظيم طريقة تفكيرنا ولأسلوب ممارستنا العقلية، إلا أنّ الهدف من التنظيم ليس فقط تنظيم طريقة الممارسة العقلية، بل تنظيم العالم الخارجي عبر اختيار الظواهر ودراستها وإدخال عنصر التنظيم عليها، وأبر مثال لذلك ما يقوم به علماء التاريخ من دراسة وتنظيم الظواهر التاريخية المعقدة بأسلوب علمي منظم. بل إنّ طريقة التنظيم اختلف تطبيقها باختلاف أنماط التفكير؛ ففي التفكير الأسطوري والتفكير الفلسفي كان العقل البشري يتأمل العالم كما هو قائم ومنظم، أما في التفكير العلمي فإنّ العقل البشري يبحث النظام في عالم غير منظم من خلال “منهجية” محددة، وهذه الاخيرة تتطور باستمرار تغير المعرفة العلمية. وحتى لا يكون هدف التفكير العلمي هو مجرد بلوغ النتيجة، فإنّ البحث عن الأسباب الخاصة بالظواهر المدروسة له قيمة وتأثير علمي؛ ومغزى ذلك أنّ البحث في معرفة أسباب الظواهر تمكننا من التحكم فيها بشكل أفضل، وبذلك يمكن الوصول إلى نتائج علمية ناجحة خلافا لما نصل إليه بالخبرة والممارسة. ولنقس على ذلك الدراسات التي أجريت حول “الموجات الصوتية” وكيفية انتقالها والاختراعات التي تم الوصول إليها لاحقا مثل الهاتف، والاسطوانات، والردايو، والشرائط .. الخ إذ كان من الصعب الوصول إلى مثل هذه الاستكشافات دون اعتماد عنصر “البحث عن معرفة أسباب الظواهر”. كما أنّ التفكير العلمي يقوم على الشمولية واليقين، ذلك لأنّ العلم شامل، بمعنى أنّ القضايا التي يعالجها تنطبق على كافة الظواهر المدروسة وهو ما يقصد به “الشمولية”، وأنّ معالجتها تصدق في نظر أي عقل يلم بها وهو ما يقصد به “اليقين”، ويقود ذلك إلى القول – بحسب المؤلف – إلى أنّ اليقين في العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بطابع الشمول. ولا نبالغ إن قلنا أنّ العلم يجب أن يتسم بالدقة والتجريد، ذلك لأنّ العلم مكن الإنسان عبر دقته وتجرده من السيطرة على واقعه المعاش، وقدم له الاختراعات العلمية التي أثرت حياته.

عقبات في طريق  التفكير العلمي

واجه الإنسان العديد من العقبات التي وقفت أمامه قبل أن يكتشف أساليب التفكير العلمي. أولى هذه العقبات كانت التقاليد الموروثة مثل “الأسطورة والخرافة” التي ظلت تحتل مكاناً كبيراً طوال فترة طويلة من تاريخ البشرية؛ فالأساطير القديمة كانت تقدم تفسيرا يتلاءم مع مستوى الشعوب التي كانت تؤمن بها، وكانت هذه الأساطير تجمع بين الطبيعة والإنسان في وحده واحدة، بل إنها أزالت الفاصل بينهما، وبذلك كانت “الأسطورة والخرافة” من سمات التفكير غير الناضج في تاريخ البشرية وكانت الوسيلة الوحيدة لتفسير الظواهر قبل ظهور العلم. أما ثاني هذه العقبات فكانت “الخضوع للسلطة” أو ما يقصد به التحرر من سلطة عالم أو مفكر ما، والتي شكلت بدورها عقبة كبيرة أمام العلماء في العصر الحديث إذ كانت آراء العلماء القدامى مثل آراء أرسطو حول “مركزية الأرض” تسيطر على تفكير الناس خلال تلك الفترة، وكان لهذه الآراء سلطة ليس على عامة الناس بل على فئة من العلماء، كما أن هذه الآراء أكتسبت سلطة أكبر لانتشارها بين عامة الناس لدرجة الدفاع عنها دون تفنيد صوابها أو خطأها، وكان الناس خلال تلك الفترة يجتمعون حول الرأي الواحد مثلما تتجمع أسراب الطيور حين تنتقل من مكان لآخر. إلا أنّ العقبة الأخطر تتمثل في “إنكار قدرة العقل”، وهي عقبة لا تزال في طريق تقدم العلم، إذ أن هناك من يؤمن بقوة الحدس أكثر من قوة العقل في تفسير العلاقات بين الظواهر، لذلك نجد الكاتب يدافع عن العقل ويرى بأن العقل قدم انجازات للبشرية خلافاً لأنصار “الحدس” الذي شنو هجوما على العقل. أما العقبة الأخرى التي تقف أمام العلم فيشير إليها المؤلف بـ “التعصب” الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص أو لعقيدة أو ايدولوجية يؤمن بها، بل الأخطر من ذلك أن يقف هذا التعصب في طريق العلم حين ينكر الفرد فضائل الآخرين ويهاجمها، وعليه فإنّ التعصب يغلي القدرة على التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد ويشجع قيم الخضوع والطاعة، وهي قيم لا تشجع على التفكير العلمي. ولعلنا نتفق هنا مع المؤلف حين تحدث عن الدور المزدوج لوسائل الإعلام خاصة “الإعلام المضلل” ذلك لأن وسائل الإعلام اقتحمت كل البيوت، وأصبحت تخاطب كافة أفراد الأسرة عبر تقديم مواد الترفيه والتسليه. على أنّ دورها أصبح حاسم ومؤثر إذ أنها يمكن أن تلعب دوراً مهماً في نشر قيم التفكير العلمي أو هدمها من خلال برامجها. ولو أمعنا النظر في دور هذه الوسائل في الوقت الحالي لقلنا إنّ تأثيرها السلبي بات يفوق تأثيرها الإيجابي، ناهيك عن دورها في تشكيل العقول وصبها في قوالب محددة ربما تنعكس بشكل او بآخر على القدرة على التفكير العلمي.

المعالم الكبرى في طريق العلم

ينتقل المؤلف في هذا الجزء إلى عرض المراحل الرئيسية في طريق العلم، ويشير إليها المؤلف بنقاط التحول الكبرى خلال تاريخ العلم، وذلك بهدف إعطاء القارئ لمحة عامة عن التطوّر الذي طرأ على معنى العلم. وبدورنا لن نخوض في تفاصيل هذه المراحل، بل سنتطرق إليها أبرز معالمها. ومن هنا نجد أنّ المؤلف عرض ثلاث مراحل في تطور العلم، أولاها مرحلة “العالم القديم” وبدأ الحديث فيها عن الحضارات الإنسانية في الشرق خاصة الحضارة الفرعونية، إلا أنّه يشير إلى أنّ الحضارة اليونانية القديمة تميزت خلافاً للحضارات الشرقية بتوافر القدرة التحليلية التي تعتمد على البراهين المقنعة والعقل، وهنا نجد الكاتب يبين أنّ العلاقة بين الحضارات الشرقية والحضارة اليونانية القديمة تمثل في أنّ الأولى ركزت على الخبرة العملية بينما ركزت الثانية على ميدان البحث العلمي النظري. ونلاحظ هنا أنّ المؤلف لا يتفق مع النظرة السائدة لدى الكتاب الغربيين من أنّ العلم نشا في العالم الغربي، وبرر دور الحضارة الفرعونية في البناء والعمران والتحنيط وغيرها، على الرغم من عدم إنكاره لدور اليونانيين والحضارة اليونانية في العلم النظري والهندسة. وعليه يرى المؤلف بأنّ اليونانيين لم يستطيعو الجمع بين العلم النظري والتطبيق، بل ركزو على الجانب النظري، ولذا تحفظ المؤلف على نسب العلم لحضارة بعينها، بل يرى أنّ الحضارتين الشرقية والغربية أدى كل منهما دوراً هاماً في تشكيل معنى العلم خلال هذه المرحلة. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة “العصور الوسطى”، وهنا نجد المؤلف يفصل بينها إلى عصور وسطى في أوروبا وعصور وسطى في العالم الإسلامي، وذلك للتفاوت الهائل في العلم بين كل منهما. فالعصور الوسطى في أوروبا شهدت عصر التخلف والرجعية والركود الفكري، بينما العصور السطى في العالم الإسلامي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية. ويرى المؤلف بأنه طوال فترة العصور الوسطى في أوروبا لم يحرز العلم تقدماً هاماً في أي مجال، ولم يظهر جديد في العلم، بل احتفظت هذه المرحلة بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم ولعبت دورا في تجميدها وتحويلها إلى ما يمكن تسميته بالعقيدة وذلك بسبب مشكلة “الخضوع للسلطة” التي سبق الحديث عنها بعد أن توطدت العلاقة بين معتقدات الكنيسة المسيحية وآراء علماء العصر القديم أمثال أرسطو، لدرجة أنها أصبحت آراء مقدسة، وصار الاعتراض عليها ونقدها خروجا ونوعاً من الضلال، وهو ما انعكس على التفكير العملي وعلى مفكري ذلك العصر الذين لم يضيفوا جديدا للعلم. وفي المقابل، اختلف الحال في العصور الوسطى في العالم الإسلامي التي كانت مختلفة تماماً عن أوروبا، إذ ظهرت حضارة جديدة اتسمت بالإيجابية والتوسع والانفتاح على العالم، وبوجه خاص الانفتاح الفكري لدى العلماء المسلمين في  العصر العباسي الذي ترجموا ونقلوا معارف الأمم الأخرى، وظهرت مجموعة كبيرة من العلماء المسلمين في مجالات العلم المختلفة أمثال جابر بن حيان، وابن الهيثم وغيرهم. وأضاف المسلمون إلى مفهوم العلم معنى جديداً هو الجمع بين العلم النظري والتطبيقي، بمعنى استخدام العلم من أجل كشف أسرار العالم الطبييعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه عبر وضع أسس علم الحساب، والتفوق في الهندسة التحليلية، وحساب المثلثات، والكشوف الفلكية، والأبحاث الطبية. وبذلك يؤكد المؤلف أنّ هذه الاكتشافات العلمية للعلماء المسلمين كانت من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور النهضة الأوروبية الحديثة التي نقلت إليها لغاتها علوم المسلمين. ولعلّ ذلك يقودنا إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة “العصر الحديث” الذي شهد تفوق الحضارة الأوروبية، والتغير الذي حدث للعلم خلال هذه المرحلة بعد انفصاله عن الفلسفة. وبرزت خلال هذه المرحلة منهجية جديدة في التفكير العلمي لمعالجة الظواهر وهي “الملاحظة”، كما ظهر خلال هذه المرحلة في أوروبا مجموعة من العلماء الذين نادو بإبعاد النظرة التفسيرية الفلسفية للعالم واستخدام “المنهج التجريبي” أمثال العالم الإنجليزي “فرانسيس بيكون”، وعلماء آخرون نادو بتطبيق الجانب الرياضي العقلي للعمل العملي أمثال الفيلسوف الفرنسي “ديكارت”، إلا أنّ الميزة الهامة لتطوّر العلم خلال تلك المرحلة تمثّل في ظهور مبدأ “العمل الجماعي” وذلك خلافاً للعصور السابقة التي كان جهد العلماء فيها عبارة عن “عمل فردي” يتختفي مع اختفاء مؤلفه، ومن ثم بدأ العلماء بإيجاد وسيلة “الرسائل المتبادلة” وتغييرها لاحقاً بتأسيس “الجمعيات العلمية” بهدف تبادل الأبحاث والرسائل العلمية، وكانت أول جمعية تأسست هي جمعية فلورنسة في إيطاليا عام 1657، والجمعية الملكية في لندن عام 1662، وغيرها من الجمعيات التي تأسست لاحقاً في فرنسا وألمانيا. وساهم تأسيس هذه الجمعيات في دعم الأبحاث العلمية، كما أنّ تأسيسها دفع إلى اهتمام الدول الغربية التي بدأت تتسابق لدعم ورعاية الأبحاث العلمية التي يجريها العلماء خلال تلك المرحلة.

العلم والتكنولوجيا

قبل أن ينتقل الباحث  – من خلال عرضه لمسيرة التفكير العلمي – إلى المرحلة المعاصرة التي تطور فيها التفكير العلمي، يعرض في هذا الجزء العلاقة بين العلم والتكنولوجيا، ولعلنا نتفق معه في ذلك أنّ مسيرة التفكير العلمي تسارعت منذ القرنين التاسع والعشرين بعد الارتباط الذي حدث بين العلم بالتكنولوجيا، وهي ظاهرة جديدة تميز بها في العصر الحديث عن غيره من العصور. فقد عرض المؤلف معنى “التكنولوجيا” وصلتها بالعلم منذ مراحله الأولى. ويؤكد المؤلف أنّ التكنولوجيا ليست وليدة في القرن العشرين، وهي في مفهومها البسيط تعني التطبيق العملي للمعرفة العلمية، وأنها وسيلة تستخدم في العمل البشري. ويرتبط مستوى التكنولوجيا – حسب المؤلف – مع حاجة المجتمعات؛ ذلك لأنّ الاختراع العلمي لا يظهر إلا إذا كانت الظروف الاجتماعية مهيأة لظهوره. إلا أنّ الكاتب يؤكد أنه خلال مرحلة العصر الحديث في أوروبا ظهر تطوّر هام وهو استخدام العلم للأغراض التكنولوجية من خلال توظيف مناهج ونظريات علمية، فعلى سبيل المثال أجرت الجمعية الملكية للعلوم في بريطانيا أبحاثاً عملية تطبيقية حول صناعة التعدين، والملاحة البحرية. ومن ثم حدث لاحقاً تلاحم بين العلم والتكنولوجيا، وظهر نوع من التخصص في العلم، مثل ظهور المتخصصين في مجال الهندسة الذين يجمعون بين المعرفة النظرية والتطبيقات العملية. وعلى يد هؤلاء المهندسين  حدثت في عصر الثورة الصناعية  تحولات كبرى غيرت وجه العالم الحديث، إذ حلت الطاقة البخارية محل الطاقة المائية، واستخدم الفحم كوقود للمصانع، وأصبحت عمليات الغزل والنسيج تتم في مصانع ضخمة. وبالتالي أخذ ذلك الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة  بعد أن ظهرت البحوث التطبيقية التي تسعى إلى تحويل النظريات العلمية إلى مشروعات قابلة للتطبيق عملياً، وعليه أصبح العلم في العصر الحديث هو الأساس لكل  تحول تكنولوجي.

لمحة عن العلم المعاصر

انتقل المؤلف هنا للحديث عن حالة العلم والوضع الذي وصل إليه حتى القرن العشرين، وكما هو معروف فإنه حدثت في القرن العشرين ثورة كمية وكيفية هائلة في اﻟﻤﺠال العلمي، وهذه الثورة العلمية اتسع معها نطاق العلم إلى حد كبير، وحظيت الإنجازات العلمية التي تحققت بأهمية كبرى، وبذلك أصبح للعلم مكانة جوهرية في حياتنا. وبما أنّ نطاق العلم قد توسع، فإنّ ذلك أدى إلى زيادة المعرفة البشرية والأبحاث العلمية المختلفة، وتحققت أهم الإنجازات العلمية خلال القرن العشرين وكان أهمها إنجاز الطاقة الذرية علي يد العالم “ألبرت آنشتاين” ومعاونيه وهو ما عرف بـ “مشروع مانهاتان”  Manhattan Projectالذي أنفقت الولايات المتحدة عليه أموالاً طائلة، ونتج عنه ظهور السلاح النووي والقنبلة الذرية التي أستخدمت في الحرب العالمية الثانية، بل إنّ نجاح هذا المشروع أحدثا تغيراً في المنظومة الدولية، فتطورت الأسلحة في الميدان العسكري من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية، وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. أما التحول الثاني للعلم خلال القرن العشرين فتمثل في ظهور علم “السبرنطيقا”  Cyberneticsعلى يد العالم “نوربرت فينر” Norbert Wiener  الذي كانت أبحاثه هي الأساس الأول لاختراع العقول الإلكترونية، وشكّل ظهور هذا العلم واحداً من المعالم الهامة في عالمنا المعاصر، وخطوة جبارة في طريق التقدم العلمي. أما الإنجاز العلمي الثالث الذي تحقق فتمثل في “غزو الفضاء” وهو انجاز ارتبط بالانجازين السابقين – إنجاز الطاقة الذرية والعقول الالتكرونية – وكان الاتحاد السوفيتي هو الذي افتتح عصر السفن الفضائية التي تطلقها صواريخ قوية من قواعد أرضية، وكان التحوّل الهام هو إطلاق القمر الصناعي “سبنوتنيك 1” في عام 1957، وبرنامج إنزال أول إنسان على القمر في عام  1969، إلا أنّ المؤلف أثار قضية حساسة نتجت عن هذه الاختراعات العلمية الكبيرة وهي استغلال العلم لأهداف سياسية. فمن خلال هذه التطورات التي حدثت للعلم، أصبح يُستغل لأغراض وأهداف خاصة من قبل الدول المتقدمة، وأصبح الغرب يحتكر المعرفة العلمية والتكنولوجية، وهو ما أحدث تحولاً في النزعة الإنسانية للعلم، إذ أنّ الهدف الأساسي من العلم هو خدمة الإنسانية وتسخير الإنسان لعقله لخدمة الإنسانية، إلا أنّ هذا الهدف المنشود أصبح مسيساً. فعلى سبيل المثال كان لهذه الاختراعات العلمية – على الرغم من أهميتها – أهدافاً سياسية نتيجة، فالقنبلة الذرية تم اختراعها سبب الحرب العالمية الثانية، كما أنّ الاختراعات العلمية في مجال غزو الفضاء واختراع السفن الفضائية تمت في إطار الصراع بين قطبي النظام الدولي خلال فترة الثنائية القطبية.

الأبعاد الاجتماعية  للعلم المعاصر

يشير المؤلف هنا إلى أنّ العلم ليس ظاهرة منعزلة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة، حيث أنّ العلم يتفاعل مع المحيط والمجتمع الذي يظهر فيه. وبعبارة أخرى، فإنّ هناك بعد اجتماعي يؤثر على العلم، وهناك تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه. وهناك حقيقة مهمة يؤكد عليها المؤلف وهي أنّ العلم أو الاختراع  العلمي يحتاج إلى تضافر عاملين، الأول وهو الحاجة الاجتماعية، والثاني وهو العبقرية الذهنية. على أنّ نجاح العامل الثاني مرتبط بالعامل الأول، فالعلم حينما يظهر لابد أن يكون المجتمع مهيأ لقبوله حتى يكتب له النجاح. ولعلنا نتفق مع المؤلف فيما ذهب إليه من أنّ هناك عباقرة نبغوا في العلم، إلا أنّ المجتمعات لم تكن مهيأة لقبولهم ونجد ذلك في حالة ابن خلدون الذي أشار في  “مقدمته” المشهورة إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري والتي أسماها بـ “علم العمران”، وهي آراء ترددت لدى علماء الاجتماع في الغرب، إلا أنّ نبوغ ابن خلدون لم يجد مجتمعاً يستجيب له، ولم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصّل إليه عبر تلاميذ نقلوا منه علمه أو على الأقل عبر علماء أكملوا مسيرته، وكانت عبقريته مثل شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، لدرجة أنه نبوغ ابن خلدون لم يكتشف إلا بعد مرور قرون عديدة. وهذه الحقيقة تنقلنا إلى ضرورة تسليط الضوء على سمات المجتمع الذي يظهر فيه العلم، ذلك لأنّ العلم اكتسب أهمية كبرى قي حياتنا، وأصبح عامل حاسم في تحديد مصير البشرية. من هذا المنطلق تناول المؤلف قضايا هامة ومصيرية تواجهها البشرية في المستقبل، ومع أنّ المؤلف تناول هذه القضايا في كتاب صدر في نهاية السبعينيات إلا أننا لو أمعنا النظر في آثار هذه المشكلات لوجدنا أنها لا تزال تشكل مصدر تهديد لحياتنا. ومن هذه القضايا “مشكلة الغذاء والسكان” التي تشكل مصدر تهديد خطير خاصة في بعدها المتعلق بندرة الغذاء أو في توافره. وكذلك مشكلة “البيئة” والوعي بالأضرار التي لحقت بها، ومشكلة “الموارد الطبيعية” المتعلقة بأزمة الطاقة وعلى رأسها “النفط”، ومشكلة “الوراثة والتحكم في صفات الإنسان”، ومشكلة “التسلح” التي تعتبر مشكلة مصيرية يمكن أن تهدد حياة البشرية. وتجدر الإشارة هنال إلى أنّ مشكلة الغذاء ياتت تمثل أحد أخطر المشكلات التي تواجهها البشرية وذلك لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بأعداد السكان، حيث يؤدي الازدياد الهائل في عدد السكان إلى تضاعف الطلب على الغذاء، كما أنّ موارد العالم صارت محدودة، وبالتالي يؤكد المؤلف أنّ الحل لهذه المشكلة يكمن في تسخير العلم وإيجاد حلول علمية لتحسين قطاع الزراعة. وننوه هنا إلى أنّ المؤلف طرح حلولاً لقضية تزايد أعداد السكان وذلك عبر تخفيض نسبة الوفيات من أجل الحفاظ على الموارد الغذايئة، إلا أننا لا نتفق معه في هذا الجانب ذلك لأنّ هناك حلولاً كثيرة يمكن أن يقدمها العالم في مجال الغذاء والزراعة وإيجاد حلول لهذه المشكلة. أما المشكلة الثانية التي يرى الكاتب أنها تشكل خطراً على البشرية فهي مشكلة سباق التسلح التي يتوقف عليها حلّ الكثير من المشكلات التي يواجهها العالم في ظل سباق التسلح العسكري وزيادة الحروب العسكرية، وحرب الأزرار الإلكترونية، والصواريخ العابرة للقارات، وأشعة الليزر، والقذائف النووية. وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ المؤلف نفسه وقع في فخ “المثالية” ويدعو إلى ضرورة تغيير  طبيعة النظم التي تسود اﻟﻤﺠتمع الإنساني لوضع حلول لهذه المشكلات، وبذلك يطرح لنا سؤال جوهري وهو: هل يضعنا التقدم العلمي في “الاتجاه الصحيح” أم أنه سيؤدي بنا إلى “الاتجاه المعاكس”؟ والجواب على هذا التساؤل تقتضي أن يكون للعلم دوراً إنسانياً يساهم في إنقاذ البشرية بدلاً من المساهمة في تراجعها أو حتى في دمارها، وهو أمر ليس بالسهل في ظل استمرار استغلال المعرفة العلمية من قبل الدول المتقدمة لأغراض تخدم مصالحها وتجعلها مهيمنة على العالم.

شخصية العالم

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلم نشاط عقلي يقوم به علماء متخصصون، ويتخذ طابعا لا شخصي، وتكون النتيجة التي يتوصل إليها العالم ملكاً للبشرية. انطلاقا من ذلك لم يغفل المؤلف الحديث عن “شخصية العالم” أو الباحث، ذلك لأنّ هناك اختلافاً كبيراً بين شخصيات العلماء، وفي درجة نبوغهم. وكما سبقت الإشارة إلى أنّ للتفكير العلمي سمات محددة، فإنّه وعلى نفس المنوال نجد أنّ هناك سمات محددة لشخصة العالم، وهي صفات تتوفر في عدد كبير من العلماء المبدعين. على أنه يجب التنويه هنا إلى ضرورة التفريق بين العناصر الشخصية لطبيعة العالم كونه “إنسان” يمارس حياته اليومية كغيره من البشر، والعناصر الشخصية للعالم كونه “عالم” يمارس عمله البحثي والعلمي. فمن هذه السمات نجد “سمة الروح النقدية” التي يقصد بها عدم تأثر العالم بالمسلمات الموجودة أو الشائعة، وقدرته على نقد نفسه وتقبّل النقد من الآخرين، واختبار آراء الغير بذهن ناقد، وإخضاع الأمور المسلم بها للعقل. أما السمة الثانية فهي “النزاهة” وتعني استبعاد العالم للعوامل الذاتية من عمله العلمي، والتحلي بالموضوعية بطرح مصالحه وميوله واتجاهاته الشخصية. أما السمة الثالثة فهي “الحيادية” وتعني أنّ العالم يجب أنه لا ينحاز مقدماً إلى طرف من إطراف النزاع الفكري أو الخلاف العلمي، وإعطاء  كل رأى من الآراء المتعارضة حقه الكامل في التعبير عن نفسه، ووزن كل الحجج التي تقال بميزان يخلو من التحيز. وأخيراً فإنّ التحلي بهذه السمات لابد أن يتوفر فيها “البعد الأخلاقي” إذ يؤكد المؤلف على أنه هناك علاقة وثيقة بين العلام  والأخلاق، ولذا يجب توفر حد أدنى من السمات الأخلاقية في شخصية العالم، وعليه أن يكون واعياً بالقضايا المحيطة به، كما أنه يجب أن يتحلى بثقافة تجمع بين مستوين، الأول على المستوى الإنساني كونه إنسان يمارس حياته كغيرة من البشر، والثاني على المستوى العلمي كونه عالم يتمتع بصفات لا تتوفر لدى عامة الناس.

وختاماً فإننا نلمس من طرح المؤلف في الكتاب حول مسيرة “التفكير العلمي” أنّ العلم أحدث تطوراً كبيراً في حياتنا، بل إنّ آثاره باتت واضحة المعالم في كل تفاصيل حياتنا اليومية، وأصبح عالمنا بفضل العالم ينمو ويتطور بسرعة نتيجة للاختراعات والمنجزات العلمية الهائلة. إلا أنّ والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف سيغير العلم من حياة البشرية خلال السنوات القادمة؟ إنّ الإجابة على هذا التساؤل تدفعنا إلى القول أنّ العلم بات سلاحاً مهما ً في عالمنا المعصر، فمن ناحية نجد أنّ هناك تأثير إيجابي للعلم إذ بات وسيلة هامة عملت تسهيل حياتنا لدرجة أنّ المؤلف يغالي في وصف هذا التأثير الإيجابي من أنّ كل تقدم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة ارتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالعلم. ومن ناحية أخرى، بات العلم “سلعة تجارية” تحتركها الدول المتقدمة التي فرضت هيمنتها على دول العالم النامي، كما أنّ البحث العلمي بات يخضع للاعتبارات التجارية، وما يدعم ذلك أنّ  الممارسات الفعلية على أرض الواقع تؤكد أنّ العلم تحول لسلعة تجارية. إضافة إلى ذلك ظهرت “نزعة قومية” لدى دول الغرب التي أصبحت تحتكر العلم، وتدعي بتفوقها على غيرها من الشعوب، على الرغم من أنّ العلم – في الحقيقة – ليس ملكاً لأحد، بل هو ملك للبشرية جمعاء.

وإجمالاً يمكن القول أنّ الكتاب تناول موضوع “التفكير العلمي” بأسلوب علمي وموضوعي، واستعرض المؤلف في فصوله السبعة خصائص التفكير العلمي، والعقبات التي تقف أمامه، والمراحل الرئيسية في طريق العلم، وعلاقة العلم المعاصر بالتكنولوجيا، والوضع الذي وصل إليه حتى القرن العشرين، وأخيراً تناول البعدين الاجتماعي والأخلاقي للعلم. تلك هي أبرز القضايا التي تناولها الكتاب.

ونود الإشارة هنا على أنّه على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على إصدار الكتاب، فإنّ الأفكار التي تناولها تطرقت لقضايا هامة لا يزال تأثيرها واضحاً في وقتنا الحالي. على أنه لابد من أن نلفت انتباه القارئ إلى أنّ هناك بعض الملاحظات على الإخراج الشكلي والفني للكتاب، وتتمثل في وجود بعض الأخطاء المطبعية على الرغم من قلتها، لذا ننصح من يقرأ الكتاب بإعادة قراءة الجمل والفقرات حتى يمكن فهم الأفكار التي يعالجها الكتاب.

1 thoughts on “تلخيص كتاب التفكير العلمي للمؤلف د. فؤاد زكريا

أضف تعليق